يا بحر

on

كبيرٌ هذا البحر و عجيب , يفصل بين اغنى قارات العالم و افقرها ,, عطوفٌ يستمع لأسرار كل من يقصده , قاسٍ يأكل كل من يستهين به , كبيرٌ يحمل بأحشائه أسماكاً و حيتاناً و جثثاً لهاربين من جحيم الأرض إلى جنتها تاهوا في منتصف الطريق فلم يشفق عليه , و إلى جانب كل هذا يحمل قصصاً عدة .

في مدينة انطاليا التركية , عجوز فلسطينية تحدث إبنتها الشابة و هي تنظر إلى ما وراء البحر لعلها ترى هناك قبةً ذهبية أو جرساً من أجراس القيامة فتقول

, :” أيا بنيتي مهما عشنا خارج الأرض فلابد أن نعود ولا يجب أن يطول بقائنا خارجاً , مهما تغربنا يا بنتي فلا بد أن نعود إلى بيتنا في القدس , أشتاق يا بنيتي إلى شوارع بلدتنا و أزقتها , أشتاق إلى أشجار الزيتون و إلى حمامها الذي حلق في السماء عاليا معلنا السلام فوق الرصاص , أشتاق إلى أمي و هي تعجن خبزها في ساحة بيتنا الخلفية التي جَلَست فيها دوما حتى لم تحتمل لحظة فراقنا للبيت , فرحلت أمي بعد رحيلنا عن فلسطين بشهر , عبرنا البحر إلى هنا و تركنا فلسطين بأجسادنا لكننا لم نفلح في تركها بأرواحنا , لم ترحل هي عن عقولنا فظلت تحاصرنا بذكرياته دوما , يا ابنتي لا تتجوزي إلا فلسطينياً , صدقيني لا يهم من يكن مدام فلسطينياً فسيتهم بك سيراك قطعة من وطنه الضائع و يحبك كحبه لوطنه , ربوا أبنائكم هناك في فلسطين و علموهم بأن يكونوا فلسطينين اليوم و غدا و أبداً .
تنهي الأم حديثها لتلمس أمواج البحر لعلها تكون أتية من فلسطين فتشم فيها شيئاً من رائحتها أو قد تكون ذاهبة إلى هناك فتحمل إليها سلاماً, تتأثر الأم و لكن الموج لا يتأثر فيعود أدراجه نحو البحر من جديد متدافعا حتى يبتعد عن الشاطيء شيئاً فشيئاً .

في عرض البحر المتوسط , قاربٌ خرج من الخدمة قانونيا منذ سنوات فتم تحويله إلى السوق السوداء  , مكان إنطلاقه كان من أحد الشواطيء التونسية , الوجهة إلى لامبدوزا , أرض الأحلام لكل من يسكن جنوب البحر , شابٌ تونسي في مقتبل العمر يجلس بين أكوام البشر المكدسة على هذا القارب , يتأمل صورة عائلية إلقتطت منذ سنوات , يظهر فيها كطفلٍ صغير ما تزال الإبتسامة على وجهه , تذكر يوم البارحة حينما خرج حاملاً حقيبته معه , ودع أمه و الدمع في عينيه , حضن أخاه الصغير حضناً حمل بداخله دفيء الأب و حنانه رغم أن كلاهما قد حرم منه منذ زمن , خرج و كله أملٌ بأنه سيعود ليكسو أمه من الحرير و ليعيش أخاه الصغير عيشة حرم منها هو , تذكر كيف عمل بكد طيلة أشهر حتى يستطيع توفير ثمن مكانٍ له على هذا القارب , كيف حلم  في ذات يوم بأن يعيش سعيداً في تونس , في وطنه , كبر شيئاً فشيئا و تبدل حلمه ليكون حلماً بالهجرة , أو الحرقة كما يسميها أهل ذاك البلد , لم يهتم بإحتمال موته وسط البحر ففي كل الأحوال سيموت إن لم يكن غرقاً فسيكون قهراً , في الحالتين ميت و لكن الإختلاف سيكون في القبر , إما أن يبتلعه البحر أو أن تتحضنه حفرة صغيرة في بلاده , لهذا لم يهتم بعناء جمع المال , عمل لأشهر دون كللٍ أو ملل حتى جاء موعد خروجه , قبيل الفجر كانوا مجتمعين , أفارقة و عرب , لكلٍ منهم حكاية معاناة مع الحياة في بلاده , فرقتهم الجغرافيا و جمعهم قاربٌ يشق الموج وسط الظلام , فجأة ….. شعر بهزة ما و سمع صوت إرتطام , نظر فوجد الكل قد وقف فزعاً , صاح بهم قبطان السفينة بأنهم قد صدموا شيئاً ما ,

النساء تصرخ

يحاول  كل شخص إيجاد بدلة للنجاة أو شيء يؤدي وظيفتها ,

أحس بتسرب الماء تحت قدميه , فزعٌ شديد إعتراه بدء الناس في التدافع و القفز إلى المياه ,

صدمه أحد المتدافعين فأسقطه في البحر .

يحاول جاهداً أن يسبح مع الموج العالي

لكنه لا يعرف السباحة ,

يبحث عن قطعة خشب وسط المياه لعلها تنقذه

يصارع الموت  لكنه عبثا يحاول

موجة عالية تغطيه و تنزله تحت الماء

بدء نفسه بالإنقطاع

يمر أمامه شريط حياته كله

ينظر للسماء فيرى أمه تبكيه في القمر .

في عقله يطلب منها السماح و أن ترضى عنه

يطلب السماح من كل شخصٍ أساء له في حياته .

نفضة أخيرة لعله يستطيع الخروج لكنها كانت نفضة خروج الروح .

تدفعه الامواج بلطفٍ إلى  الأعماق بعد أن فارق الحياة , ثم تمضي في رحلتها من جديد .
——–

جلس على شاطيء سيدي خليفة في بنغازي بعد أن حرمته الحرب من الجلوس عند شط الشابي , جلس يتأمل أمواج البحر المتسابقة لمعانقة رمال الشاطيء , يفكر في فرحته التي لم تكتمل , فبعد أن تم تحرير منطقتهم ذهب مسرعاً إلى بيتهم و بداخله شوقٌ بعد نزوحٍ دام لسنة و نصف , لكنه لم يجد من بيتهم إلى أنقاضه لتنطبق عليه الأغنية الشعبية القائلة :” جيت ننشدك يا حوش وين أصحابك لقيتك خراب مكسرات أبوابك”.

أشعل سيجارة الأمريكانا و قال لنفسه :” هل يعقل بأن يكون هذا ما صبرنا عليه ؟ , ماذا ينتظرنا بعد هذا ؟!, البيت و قد تهدم , و مات من الأصدقاء من مات , لا عمل ولا دخل , كل شيء في البلاد زادت أسعاره أضعاف مضعفة , حتى قرطاس الأمريكانا أصابه الغلاء , أصابنا الشيب و نحن في مرحلة الشباب , و كأن هذه الأرض تطردنا منها , مللت كل شيء “.

نفس من السيجارة

“لهذا جئتك يا بحر , جئت أريد أن أشكي لك حالي فلم أجد غيرك أحداً يستمع لي , جئت أقول لك مابخاطري لعله يغرق بين أمواجك و يختفي ,أه لو أستطيع عبور أمواجك إلى الضفة الأخرى ,لكن كيف أعبر دون مال ؟

أه لو كنت قد وُلدت على الضفة الأخرى من البداية بكل تأكيد سيكون حالي أفضل من الأن “.

أنهى سيجارته و رماها وسط الرمال , ثم ركب سيارته و رحل .

———————–

هذا هو البحر , في كل يوم يستمع إلى عديد الحكايا لكنه لا ينقلها لأحد بل يحفظها بداخل أعماقه , فيه حكاياتٌ لناس تتمنى عبوره عائدة إلى وطنها و أخرين يريدون عبوره هرباً من أوطانهم و بين هذا و ذاك حكايات لأشخاصٍ غرقوا أثناء عبورهم له , و تتابع الامواج رحلتها غير عابئة بكل ما رأته .

 

أضف تعليق